بين الخصوصية والإندماج: قراءة في كتاب المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : فاروق غانم خداج
Nov 09 25|21:51PM :نشر بتاريخ
كتب الباحث فاروق غانم خداج في «إيكو وطن" بين الخصوصيّة والاندماج: قراءة في كتاب المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز.
في رحلةِ الإنسانِ بين جيلٍ وآخر، بين ماضٍ يتوارثُه ومستقبلٍ يُشكِّلُه، تبرزُ الثقافةُ كخطٍّ فاصلٍ يُحدِّدُ بين ما كانَ وما ينبثقُ.
في هذا السياق، يظهر الكتابُ القيّم «المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز: الخصوصيّة والاندماج» (الدارُ العربيةُ للعلومِ ناشرون، بيروت، 2015) للمؤلّف الشيخِ الدكتور سامي أبي المنى، ليُضيءَ على مجتمعٍ توحيديٍّ لا يعيشُ الانعزالَ، بل يُمارسُ تفاعلاً حيًّا بين الجذورِ والانفتاحِ، بين الوفاءِ للأصلِ والوعيِ بالزمنِ.
خلفيّةُ المؤلّفِ والمنطلقُ
الشيخُ الدكتور سامي أبي المنى، من بلدةِ شانيه – قضاءِ عاليه في لبنان (مواليد 1957)، يشغلُ منصبَ شيخِ عقلِ طائفةِ الموحدين الدروز في لبنان، ويُعرفُ بأنَّه رجلُ حوارٍ وشاعرٌ مفوّه.
نالَ شهادةَ الماجستير عن رسالتِه «المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز: الخصوصيّة والاندماج»، ثم واصلَ تحصيلَه لنيلِ الدكتوراه في العلومِ الدينية بعنوان «الحوار الإسلامي–المسيحي في لبنان: رؤيةُ الموحدين الدروز» عام 2015.
ومن مؤلّفاته الأخرى: قصائد التضامن الروحي، يا أمّتي، ودموع الرضا.
تمنحُ هذه الخلفيةُ المؤلّفَ قربًا مزدوجًا من الماضي والحاضر؛ فهو ليس باحثًا خارجيًّا فحسب، بل فاعلٌ في التجربةِ الثقافيةِ للطائفة، ومدركٌ لعمقِ روابطِها الفكريةِ والاجتماعيةِ.
بنيةُ الكتابِ وأطروحتُه
ينطلقُ الكتابُ من تساؤلاتٍ محوريّة: مَن هم الموحدون الدروز؟ ما تاريخُهم؟ وما علاقةُ مظاهرِ حياتِهم الثقافيةِ والاجتماعيةِ بهويّتِهم وباندماجِهم الوطنيّ؟
قسّمَ المؤلّفُ دراستَه إلى ثلاثةِ محاورَ رئيسةٍ:
1. تاريخُ الطائفةِ وأصولُها العقائدية، وانتماؤُها الإسلاميّ التوحيديّ كما يراه.
2. مظاهرُ الحياةِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ من الولادةِ والزواجِ إلى المآتمِ والأعيادِ والمزاراتِ والمؤسّساتِ والجمعياتِ.
3. العلاقةُ بين الخصوصيّةِ والاندماجِ، وكيف استطاعَ الموحدون الحفاظَ على شخصيّتِهم المميّزةِ ضمن مجتمعٍ لبنانيٍّ متعدّدٍ.
ويؤكّدُ المؤلّفُ أنّ الخصوصيّةَ ليست جدارًا يعزلُ، بل جذراً يمنحُ القوّةَ في فضاءِ التنوّعِ.
أبرزُ المحاورِ والمضامينِ
العاداتُ والتقاليدُ بوصفِها هويّةً حيّةً
يُبيّنُ المؤلّفُ أنَّ الطقوسَ الاجتماعيةَ لدى الموحدين ليست ممارساتٍ شكليّة، بل تجلّياتٌ لقيمِ الوفاءِ وصونِ الكلمةِ والاحترامِ المتبادلِ والتكافلِ.
هذه القيمُ تُشكّلُ أساسَ «الذّاتِ الجماعيةِ» التي لا تفقدُ توازنَها مع انفتاحِ الزمنِ.
الحياةُ اليوميةُ مرآةُ القيمِ
يفصّلُ الكتابُ موضوعاتِ الولادةِ والزواجِ والمجالسِ الروحيةِ والزيَّ ومواسمِ الأعياد والمناسبات الدينية، مبيّنًا أنّ كلَّ عادةٍ تُعبّرُ عن طبقةٍ من الوعيِ الجمعيّ وعن امتدادِ التاريخِ في تفاصيلِ اليوميّاتِ.
الولادةُ
يرى المؤلّفُ أنّ الولادةَ عند الموحدين الدروز ليست مجرّدَ حدثٍ بيولوجيّ، بل مناسبةٌ روحيةٌ تُستقبلُ بالدعاءِ والشكرِ.
تُظهرُ العائلةُ امتنانَها لله على «عطيّةِ الحياة»، وتُعبّرُ عن فرحتِها بالبساطةِ والاحتشامِ، من غير طقوسٍ صاخبةٍ.
تحظى الأمُّ بمكانةٍ مكرّمةٍ، وتُعامَلُ بعنايةٍ خاصةٍ من الأسرةِ والجيرانِ.
وتُطلقُ الأسماءُ غالبًا بدلالاتٍ أخلاقيةٍ أو رمزيةٍ مستمدّةٍ من التراثِ العربيّ والإسلاميّ، في دلالةٍ على التواصلِ مع الجذورِ الروحيةِ واللغويةِ.
الزواجُ
يقدّمُ أبو المنى الزواجَ بوصفِه عقدًا دينيًّا واجتماعيًّا يقومُ على القبولِ المتبادلِ والرضا الصادقِ، لا على المظاهرِ أو المصالحِ.
ويُعقدُ الزواجُ في أجواءٍ عائليةٍ بسيطةٍ، بعيدًا عن البذخِ، ويُستحسنُ أن يتمَّ بموافقةِ الأهلِ ومباركةِ الشيوخِ.
يرى المؤلّفُ أنّ هذا الارتباطَ يُعَدّ عهدًا أخلاقيًّا بين عائلتين، تُصانُ فيه القيمُ الأساسيةُ: الوفاءُ والصدقُ والتكافلُ.
ويُشدّدُ على أنّ المرأةَ الموحّدةَ شريكةٌ في القرارِ الأسريِّ والاجتماعيّ، وأنّ الزواجَ عند الدروز يرتكزُ على الاحترامِ المتبادلِ لا على التراتبِ.
كما يُشيرُ إلى أنّ الطائفةَ تحتفظُ بخصوصيّتِها في أحكامِ الزواجِ الداخليِّ حفاظًا على وحدةِ المعتقدِ، دون أن يعني ذلك رفضًا للآخرِ أو انتقاصًا من كرامتِه.
المآتمُ
أمّا المآتمُ، فهي لدى الموحدين لحظاتُ تأمّلٍ وتذكّرٍ أكثرُ منها مناسبةُ حزنٍ ظاهريٍّ.
يُراعى فيها الهدوءُ والسكينةُ والابتعادُ عن المظاهرِ الصاخبةِ؛ فالفقدُ يُقابَلُ بالرضا والتسليمِ.
يتقبّلُ أهلُ الفقيدِ التعازي في المجلسِ الروحيّ، حيث يتلو الشيوخُ كلماتٍ تُذكّرُ بالحكمةِ الإلهيةِ وبأنّ الموتَ «حقٌّ وعدلٌ ورحمةٌ».
ويُشيرُ المؤلفُ إلى أنّ هذه الطقوسَ تُعبّرُ عن فلسفةٍ توحيديةٍ ترى في الموتِ انتقالًا من طورٍ إلى طورٍ، لا نهايةً للوجودِ.
ومن العاداتِ اللافتةِ تلاوةُ بعضِ الأشعارِ والمواعظِ التي تُظهرُ البعدَ الأخلاقيَّ للتجربةِ، مؤكّدةً أنّ الصبرَ من علاماتِ الإيمانِ.
الأعيادُ والمواسمُ
لا يُركّزُ الموحدون على كثرةِ الأعيادِ، بل على معناها القيميّ.
ومن أبرزِ المناسباتِ لديهم عيدُ الأضحى الذي يُحتفلُ به روحانيًّا أكثرَ منه اجتماعيًّا، حيث تُقامُ الصلواتُ وتُقدَّمُ الصدقاتُ.
كما تعدّ الاعياد الدينية مناسبةً سنويةً يجتمعُ فيها أبناءُ الطائفةِ لتجديدِ العهدِ بالمعرفةِ والتعاونِ، وتبادلِ الزياراتِ بين القرى.
ويرى المؤلفُ أنّ هذه المناسباتِ، على قلّتها، تحملُ روحَ الوحدةِ والتواصلِ والارتقاءِ الأخلاقيّ، وتربطُ الحاضرَ بالماضي في سياقٍ من التذكّرِ والوفاءِ.
الخصوصيّةُ والاندماجُ
العنوانُ بحدِّ ذاته مفتاحٌ للفهمِ؛ إذ يُشيرُ المؤلفُ إلى أنّ الخصوصيّةَ لا تعني الانغلاقَ، والاندماجَ لا يعني الذوبانَ.
> «التوازنُ بين الانتماءِ الخاصِّ والاندماجِ الوطنيِّ هو الضمانةُ لسلامةِ الوطنِ وتنوّعِه. »
ويبرزُ هنا البعدُ اللبنانيُّ في فكرِ أبي المنى، مؤكّدًا أنّ الموحدين شاركوا بفاعليةٍ في الحياةِ العامةِ، من بناءِ الدولةِ إلى المواقفِ الوطنيةِ الجامعةِ، دون أن يتخلّوا عن هويّتِهم الثقافيةِ.
التحديثُ والتغيّرُ
لم تُغفلِ الدراسةُ التحدّياتِ المعاصرةَ؛ فالمؤلّفُ يعترفُ بأنّ بعضَ العاداتِ قد تغيّرَ أو تراجعَ، لكنَّ الجوهرَ القيميَّ ظلّ حاضرًا، وأنّ التحوّلَ ليس تراجعًا بل دليلٌ على حيويّةِ الثقافةِ.
لمحةٌ عن الموحدين الدروز في لبنان وبلادِ الشامِ
تُعَدُّ طائفةُ الموحدين الدروز مكوّنًا تاريخيًّا أصيلًا في المشرقِ العربيّ، منتشرةً في لبنانَ وجبلِ العربِ في سوريا، إلى جانبِ حضورٍ محدودٍ في فلسطينَ والأردنّ.
تميّزَ هؤلاء منذ نشأتِهم بالتمسّكِ بالقيمِ الأخلاقيةِ والإنسانيةِ وبمبدأِ التوحيدِ القائمِ على المعرفةِ والعملِ الصالحِ.
في لبنان، كان لهم حضورٌ بارزٌ في جبلِ لبنان ومناطقِ راشيا وحاصبيا، وشاركوا في بناءِ الدولةِ الحديثةِ وفي الحياةِ السياسيةِ والفكريةِ والتربويةِ.
كما تميّزت مناطقُهم بمدارسِها الدينيةِ والثقافيةِ وإنتاجِها الرمزيِّ في الشعرِ والفكرِ والسياسةِ.
ويُعرفُ عنهم احترامُهم للعلمِ وأهلِه، واعتمادُهم التقية في مسلكهم العرفاني وفي العقيدةِ مع الانفتاحِ في الممارسةِ الاجتماعيةِ، ما جعلهم نموذجًا فريدًا في الجمعِ بين الأصالةِ والانخراطِ في العصرِ.
ومن الشخصياتِ البارزةِ: الأميرُ شكيبُ أرسلان، سلطانُ باشا الأطرش، وكمالُ جنبلاط، الذين كان لهم دورٌ محوريٌّ في التنويرِ العربيِّ والحركةِ القوميةِ والإصلاحيةِ.
ومن هنا، يبدو كتابُ أبي المنى امتدادًا طبيعيًّا لهذا الإرثِ، كجهدٍ علميٍّ يرصدُ المظاهرَ الثقافيةَ التي شكّلت هذه الخصوصيّةَ التوحيديةَ في علاقتها بالوطنِ والإنسانِ.
القيمةُ والرؤيةُ
يشكّلُ هذا الكتابُ مرجعًا جادًّا لفهمِ البُعدِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ للطائفةِ الدرزيةِ بمنهجٍ علميٍّ وموضوعيّةٍ عاليةٍ.
لا يكتفي المؤلّفُ بوصفِ الواقعِ، بل يُقدّمُ تحليلًا متكاملًا يُبيّنُ كيف تحوّلت العادةُ إلى قيمةٍ، كما في تحوّلِ «العيد» من مناسبةٍ احتفاليةٍ إلى تجسيدٍ للصلةِ الروحيةِ بين أبناءِ الطائفةِ.
أسلوبُه يجمعُ بين الدقّةِ الأكاديميةِ وسلاسةِ اللغةِ، ما يجعلُه صالحًا للقراءةِ العامةِ والدراسةِ المتخصّصةِ على حدٍّ سواء.
أهميّةُ الكتابِ في السياقِ اللبنانيِّ
في زمنٍ يُتناولُ فيه مكوّنٌ لبنانيٌّ أصيلٌ غالبًا من منظورٍ سياسيٍّ أو أمنيٍّ، يأتي هذا الكتابُ ليُقدّمَه كموضوعٍ ثقافيٍّ–فكريٍّ.
تقديمُ رؤيةٍ «من الداخل» – مستمدّةٍ من تجربةِ أبناءِ الطائفةِ – يمنحُ العملَ مصداقيةً نادرةً.
كما أنّ معالجةَ مفهومِ الانتماءِ بحسٍّ واسعٍ، جامعًا بين الدينِ والطائفةِ والوطنِ، تُعبّرُ عن جوهرِ التجربةِ اللبنانيةِ القائمةِ على التنوّعِ ضمن الوحدةِ.
ومن شأنِ مثلِ هذه الدراساتِ أن تُسهمَ في تصحيحِ الصورةِ النمطيةِ عن الموحدين الدروز وتُبرزَ وجهَهم الثقافيَّ الإنسانيَّ المنفتحَ.
ملاحظاتٌ نقديّةٌ
يُحسبُ للمؤلّفِ عمقُه التوثيقيُّ وغنى مراجعِه، غير أنّ انتماءَه الداخليَّ للطائفةِ قد يدفعُه إلى التركيزِ على الإيجابياتِ أكثرَ من النقدِ الذاتيِّ.
لذلك، سيكونُ من المفيدِ استكمالُ دراستِه بمقارباتٍ موازيةٍ من باحثين مختلفي الانتماءِ.
كما أنّ تركيزَه على الحالةِ اللبنانيةِ يُشيرُ إلى ضرورةِ إجراءِ دراساتٍ مشابهةٍ عن وضعِ الدروز في سوريا وفلسطينَ والأردنّ.
ورغمَ أنّ الكتابَ صدرَ قبلَ نحوِ عقدٍ، فإنَّه ما يزالُ مرجعًا أساسيًّا لتتبّعِ التحوّلاتِ الاجتماعيةِ الحديثةِ، مع إمكانيّةِ تحديثِه بإحصاءاتٍ ميدانيةٍ جديدةٍ.
خاتمةٌ
يُقدّمُ شيخُ العقل لطائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي أبي المنى أكثرَ من توثيقٍ للعاداتِ والتقاليدِ؛ إنَّه دعوةٌ إلى تأمّلِ المعنى الإنسانيِّ الكامنِ في كلِّ ممارسةٍ اجتماعيةٍ، وتأكيدٌ على أنّ الحفاظَ على الجذورِ لا يتناقضُ مع الانفتاحِ على الآخرِ.
في وطنٍ تتسارعُ فيه التحوّلاتُ، تبقى مثلُ هذه الدراساتِ ضرورةً لفهمِ الذّاتِ الجماعيةِ وتعزيزِ ثقافةِ الحوارِ والاحترامِ المتبادلِ.
إنّ كتابَ «المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز: الخصوصيّة والاندماج» ليس لطائفةٍ فحسب، بل لإنسانٍ يسعى لأن يرى في التنوّعِ اللبنانيِّ مصدرَ غِنى لا مصدرَ خوفٍ، وفي الاختلافِ فرصةً للتكاملِ لا ذريعةً للانقسامِ.
*فاروق غانم خداج: كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا