بسام براك… الصوت الذي لم يخن اللغة

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : د. فاروق غانم خداج
Oct 27 25|23:35PM :نشر بتاريخ

كان صوتُه صدى للجمال والصدق، ونبرة لا تُخطئها الأذن مهما ازدحم الأثير بالأصوات. لم يكن مذيعًا فحسب، بل حارسًا لهيبة اللغة، وصوتًا يُذكّر بأن العربية ليست من تراث الماضي، بل من حيوية الحاضر إذا أُحسن النطق بها. كان يعرف أن الكلمة ليست سلعة تُباع في الأسواق، بل مسؤولية تُؤدى بأمانة، وأن الأداء الصحيح فعل انتماء قبل أن يكون مهنة.

في كل إطلالة له، سواء عبر الشاشة أو المذياع، بدا كأنه يُعيد تعريف المذيع الحقيقي: المثقف قبل الملقن، والمحب قبل المحترف. كان يُمسك الكلمة كما يمسك الفنان ريشته، بحذر وشغف، ويمنحها نبرته الخاصة التي تمزج بين الإتقان والدفء. وفي عالم تتراجع فيه الفصحى أمام اللهجات، ظل يؤمن أن المذيع هو حامل الهوية، لا ناقل المعلومة.

 

مدرسة في الأداء والفكر

لم يكن بسام براك وجهًا إعلاميًا عابرًا، بل مدرسة في الإلقاء والتفكير. في الجامعة الأنطونية، حيث شغل موقع أستاذ ومنسق للغة العربية في كلية الإعلام، خلّف في طلابه أثرًا يتجاوز حدود القاعة. لم يكن يدرّب على النطق الصحيح فحسب، بل كان يزرع فيهم حب العربية والإحساس بالمسؤولية تجاهها.

كان يفتتح درسه غالبًا بجملته الشهيرة:
"إذا لم تحبوا اللغة، لن تتقنوها"

ثم يضيف بوقار:
"النبرة مرآة الفكر، ومن لا فكر له لا صوت له"

هكذا علّم أجيالًا أن الإعلام بلا ثقافة كصوت بلا معنى، وأن اللغة لا تُصان بالقواعد وحدها، بل بالمحبة والوعي.

 

مبادرات لغوية تربوية

امتدت رسالته إلى الفصول والمدارس والمجتمع. أطلق مبادرة "إملاؤنا لغتنا" لتشجيع التلامذة على كتابة العربية الصحيحة، وإعادة الاعتبار لجمال الخطأ حين يُصلح بالعلم لا بالسخرية. لم تكن المبادرة نشاطًا أكاديميًا عابرًا، بل رؤية ثقافية ووطنية في زمن يهدد فيه الاغتراب اللغوي هوية الأجيال.

كان يؤمن أن العروبة تُترجم بالحرف الصحيح قبل أن تُرفع بالشعارات، وأن إنقاذ اللغة يبدأ من المدرسة لا من المنابر.

 

درس في الصمود الإنساني

حين واجه المرض، واجهه بالهدوء نفسه الذي كان يواجه به الخطأ اللغوي على الهواء. خضع لعملية دقيقة في الدماغ بتقنية "الجراحة الواعية"، فكان يُحادث الأطباء وهو على طاولة العمليات. تجربة حملت من الألم ما حملت، لكنها كشفت عمق إنسانيته التي لا تستسلم.

تحوّل الموقف القاسي إلى صفحة جديدة في مسيرته. ازدادت نبرة صوته إشراقًا، وكأنه يعلمنا أن الجسد قد يضعف، أما الصوت الذي يسكن الإيمان فلا يخبو. وكان يقول بعد شفائه:
"كما يُشفى الجسد بالطب، تُشفى اللغة بالصدق"


الكتابة استمرار للصوت

عام 2018، أصدر كتابه "توالي الحبر" عن دار الإبداع – الحرف الذهبي. في صفحاته جمع بين الميكروفون والقلم، بين النبرة والفكرة. كانت نصوصه خلاصة تجربة إنسانية ولغوية في آن واحد.

كتب فيه:
"اللغة بيتنا الذي نحمله في الحنجرة، فإن انكسر صوتنا تشرّدنا"

عبارة تختصر فلسفته في الحياة: أن الإنسان يُعرف بصوته كما يُعرف بوطنه، وأن الكتابة امتداد طبيعي للصوت حين يتعب الجسد.


تكريم اللغة من خلاله

عام 2021، كرّمته جمعية Social Way في يوم اللغة العربية، تقديرًا لدوره في ترسيخ الفصحى في الإعلام اللبناني. لم يكن تكريمًا شخصيًا بقدر ما كان اعترافًا بما يمثله من التزام أخلاقي وجمالي تجاه الكلمة. قال يومها:
"اللغة لا تموت، لكنها تتعب حين نهملها"

كأنه كان يوصينا ألا نتركها وحيدة بعده، وألا نسمح للضجيج أن يخنق معناها.


شهادات الزملاء والطلاب

نعاه زملاؤه في الجامعة الأنطونية واتحاد الكتاب اللبنانيين بكلمات تفيض محبة واعترافًا. كتبت الأستاذة دنيز غانم:
"كان الصوت الذي يصحّحنا بلطف، ويعلّمنا أن الدقة ليست قسوة بل حب"

وقال أحد طلابه:
"علّمنا أن نحب اللغة قبل أن نتقنها، وأن الكلمة مسؤولية لا وسيلة شهرة"

كانت هذه الشهادات مرآة لرجل عاش للغة وترك فيها بصمة لا تُمحى.

 

وداع بصوت خافت

في السابع والعشرين من تشرين الأول عام 2025، أُسدِل الستار على حياة امتدت ثلاثة وخمسين عامًا من العطاء. رحل بسام براك جسدًا، وبقي صوته حاضرًا في ذاكرة الإعلام اللبناني. خلّف وراءه زوجته دنيز وأبناءه غدي، رنيم، نينار، وترك إرثًا لغويًا وأخلاقيًا سيبقى منارة لكل من يعرف أن الفصحى ليست مجرد كلام، بل هواء نقي نتنفسه.


خاتمة

رحل الرجل الذي لم يخن اللغة، وبقيت اللغة وفية له. في زمن يعلو فيه الصخب على الصوت، يبقى بسام براك شاهدًا على أن الإعلام يمكن أن يكون فنًا ومسؤولية في آن واحد. لقد كان صوتًا يعرف متى يصمت، وحضورًا يعرف كيف يُنصت. ومن خلاله تعلّمنا أن الكلمة إذا خرجت من القلب بلغت القلوب، وإذا خرجت من الصدق صارت أثرًا لا يُمحى.
 

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : ايكو وطن-eccowatan